الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
ها هي ذي تخلو إلى نفسها لشأن من شؤونها التي تقتضي التواري من أهلها والاحتجاب عن أنظارهم.. ولا يحدد السياق هذا الشأن، ربما لأنه شأن خاص جداً من خصوصيات الفتاة..وها هي ذي في خلوتها، مطمئنة إلى انفرادها. ولكن ها هي ذي تفاجأ مفاجأة عنيفة.. إنه رجل مكتمل سوي: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً}.. وها هي ذي تنتفض انتفاضة العذراء المذعورة يفجؤها رجل في خلوتها، فتلجأ إلى الله تستعيذ به وتستنجد وتستثير مشاعر التقوى في نفس الرجل، والخوف من الله والتحرج من رقابته في هذا المكان الخالي: {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً} فالتقيّ ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن، ويرجع عن دفعة الشهوة ونزغ الشيطان..وهنا يتمثل الخيال تلك العذراء الطيبة البريئة ذات التربية الصالحة، التي نشأت في وسط صالح، وكفلها زكريا، بعد أن نذرت لله جنينا.. وهذه هي الهزة الأولى.{قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا}.. وليتمثل الخيال مقدار الفزع والخجل. وهذا الرجل السوي الذي لم تثق بعد بأنه رسول ربها فقد تكون حيلة فاتك يستغل طيبتها يصارحها بما يخدش سمع الفتاة الخجول، وهو أنه يريد أن يهب لها غلاماً، وهما في خلوة وهذه هي الهزة الثانية.ثم تدركها شجاعة الأنثى المهددة في عرضها! فتسأل في صراحة: كيف؟{قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً}.. هكذا في صراحة. وبالألفاظ المكشوفة. فهي والرجل في خلوة. والغرض من مباغتته لها قد صار مكشوفاً. فما تعرف هي بعد كيف يهب لها غلاماً؟ وما يخفف من روع الموقف ان يقول لها: {إنما أنا رسول ربك} ولا أنه مرسل ليهب لها غلاماً طاهراً غير مدنس المولد، ولا مدنس السيرة، ليطمئن بالها. لا. فالحياء هنا لا يجدي، والصراحة أولى.. كيف؟ وهي عذراء لم يمسسها بشر، وما هي بغي فتقبل الفعلة التي تجيء منها بغلام!ويبدو من سؤالها أنها لم تكن تتصور حتى اللحظة وسيلة أخرى لأن يهبها غلاماً إلا الوسيلة المعهودة بين الذكر ولأنثى. وهذا هو الطبيعي بحكم التصور البشري.{قال كذلك قال ربك هو عليَّ هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا}..فهذا الأمر الخارق الذي لا تتصور مريم وقوعه، هين على الله. فأمام القدرة التي تقول للشيء كن فيكون، كل شيء هين، سواء جرت به السنة المعهودة أو جرت بغيره. والروح يخبرها بأن ربها يخبّرها بأن هذا هين عليه. وأنه أراد أن يجعل هذا الحادث العجيب آية للناس، وعلامة على وجوده وقدرته وحرية إرادته. ورحمة لبني إسرائيل أولاً وللبشرية جميعاً، بإبراز هذا الحادث الذي يقودهم إلى معرفة الله وعبادته وابتغاء رضاه.بذلك انتهى الحوار بين الروح الأمين ومريم العذراء.. ولا يذكر السياق ماذا كان بعد الحوار، فهنا فجوة من فجوات العرض الفني للقصة. ولكنه يذكر أن ما أخبرها به من أن يكون لها غلام وهي عذراء لم يمسسها بشر، وأن يكون هذا الغلام آية للناس ورحمة من الله. أن هذا قد انتهى أمره، وتحقق وقوعه: {وكان أمراً مقضياً} كيف؟ لا يذكر هنا عن ذلك شيئاً.ثم تمضي القصة في مشهد جديد من مشاهدها؛ فتعرض هذه العذراء الحائرة في موقف آخر أشد هولاً: {فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً}..وهذه هي الهزة الثالثة..إن السياق لا يذكر كيف حملته ولا كم حملته. هل كان حملاً عادياً كما تحمل النساء وتكون النفخة قد بعثت الحياة والنشاط في البويضة فإذا هي علقة فمضغة فعظام ثم تكسى العظام باللحم ويستكمل الجنين أيامه المعهودة؟ إن هذا جائز. فبويضة المرأة تبدأ بعد التلقيح في النشاط والنمو حتى تستكمل تسعة أشهر قمرية، والنفخة تكون قد أدت دور التلقيح فسارت البويضة سيرتها الطبيعية.. كما أنه من الجائز في مثل هذه الحالة الخاصة أن لا تسير البويضة بعد النفخة سيرة عادية، فتختصر المراحل اختصاراً؛ ويعقبها تكون الجنين ونموه واكتماله في فترة وجيزة.ليس في النص ما يدل على إحدى الحالتين. فلا نجري طويلاً وراء تحقيق القضية التي لا سند لنا فيها.. فلنشهد مريم تنتبذ مكاناً قصياً عن أهلها، في موقف أشد هولاً من موقفها الذي أسلفنا. فلئن كانت في الموقف الأول تواجه الحصانة والتربية والأخلاق، بينها وبين نفسها، فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة. ثم تواجه الآلام الجسدية بجانب الآلام النفسية. تواجه المخاض الذي {أجاءها} إجاءة إلى جذع النخلة، واضطرها اضطراراً إلى الاستناد عليها. وهي وحيدة فريدة، تعاني حيرة العذراء في أول مخاض، ولا علم لها بشيء، ولا معين لها في شيء.. فإذا هي قالت: {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً} فإننا لنكاد نرى ملامحها، ونحس اضطراب خواطرها، ونلمس مواقع الألم فيها. وهي تتمنى لو كانت {نسياً}: تلك الخرقة التي تتخذ لدم الحيض، ثم تلقى بعد ذلك وتنسى!وفي حدة الألم وغمرة الهول تقع المفاجأة الكبرى:{فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً فكلي واشربي وقري عيناً فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا}..يا لله! طفل ولد اللحظة يناديها من تحتها. يطمئن قلبها ويصلها بربها، ويرشدها إلى طعامها وشرابها. ويدلها على حجتها وبرهانها!لا تحزني.. {قد جعل ربك تحتك سرياً} فلم ينسك ولم يتركك، بل أجرى لك تحت قدميك جدولاً سارياً الأرجح أنه جرى للحظته من ينبوع أو تدفق من مسيل ماء في الجبل وهذه النخلة التي تستندين إليها هزيها فتساقط عليك رطباً. فهذا طعام وذاك شراب. والطعام الحلو مناسب للنفساء. والرطب والتمر من أجود طعام النفساء. {فكلي واشربي} هنيئاً. {وقري عيناً} واطمئني قلباً. فأما إذا واجهت أحداً فأعلنيه بطريقة غير الكلام، أنك نذرت للرحمن صوماً عن حديث الناس وانقطعت إليه للعبادة. ولا تجيبي أحداً عن سؤال..ونحسبها قد دهشت طويلاً، وبهتت طويلاً، قبل أن تمد يدها إلى جذع النخلة تهزه ليساقط عليها رطباً جنياً.. ثم أفاقت فاطمأنت إلى أن الله لا يتركها. وإلى أن حجتها معها.. هذا الطفل الذي ينطلق في المهد.. فيكشف عن الخارقة التي جاءت به إليها..{فأتت به قومها تحمله..}.. فلنشهد هذا المشهد المثير:إننا لنتصور الدهشة التي تعلو وجوه القوم ويبدو أنهم أهل بيتها الأقربون في نطاق ضيق محدود وهم يرون ابنتهم الطاهرة العذراء الموهوبة للهيكل العابدة المنقطعة للعبادة.. يرونها تحمل طفلاً!{قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً}إن ألسنتهم لتنطلق بالتقريع والتأنيب: {يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً} فظيعاً مستنكراً.ثم يتحول السخط إلى تهكم مرير: {يا أخت هارون} النبي الذي تولى الهيكل هو وذريته من بعده والذي تنتسبين إليه بعبادتك وانقطاعك لخدمة الهيكل. فيا للمفارقة بين تلك النسبة التي تنتسبينها وذلك الفعل الذي تقارفينه! {ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً} حتى تأتي بهذه الفعلة التي لا يأتيها إلا بنات آباء السوء والأمهات البغايا!وتنفذ مريم وصية الطفل العجيب التي لقنها إياها:{فأشارت إليه}.. فماذا نقول في العجب والغيظ الذي ساورهم وهم يرون عذراء تواجههم بطفل؛ ثم تتبجح فتسخر ممن يستنكرون فعلتها فتصمت وتشير لهم إلى الطفل ليسألوه عن سرها!{قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً}.ولكن ها هي ذي الخارقة العجيبة تقع مرة أخرى:{قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً}.وهكذا يعلن عيسى عليه السلام عبوديته لله. فليس هو ابنه كما تدعي فرقة. وليس هو إلهاً كما تدعي فرقة. وليس هو ثالث ثلاثة هم إله واحد وهم ثلاثة كما تدعي فرقة. ويعلن أن الله جعله نبياً، لا ولداً ولا شريكاً. وبارك فيه، وأوصاه بالصلاة والزكاة مدة حياته. والبر بوالدته والتواضع مع عشيرته. فله إذن حياة محدودة ذات أمد. وهو يموت ويبعث. وقد قدر الله له السلام والأمان والطمأنينة يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً..والنص صريح هنا في موت عيسى وبعثه. وهو لا يحتمل تأويلاً في هذه الحقيقة ولا جدالاً.ولا يزيد السياق القرآني شيئاً على هذا المشهد. لا يقول: كيف استقبل القوم هذه الخارقة. ولا ماذا كان بعدها من أمر مريم وابنها العجيب. ولا متى كانت نبوته التي أشار إليها وهو يقول:{آتاني الكتاب وجعلني نبياً}.. ذلك أن حادث ميلاد عيسى هو المقصود في هذا الموضع. فحين يصل به السياق إلى ذلك المشهد الخارق يسدل الستار ليعقب بالغرض المقصود في أنسب موضع من السياق، بلهجة التقرير، وإيقاع التقرير:{ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}..ذلك عيسى ابن مريم، لا ما يقوله المؤلهون له أو المتهمون لأمه في مولده.. ذلك هو في حقيقته وذلك واقع نشأته. ذلك هو يقول قول الحق الذي فيه يمترون ويشكون. يقولها لسانه ويقولها الحال في قصته: {ما كان لله أن يتخذ من ولد} تعالى وتنزه فليس من شأنه أن يتخذ ولداً.والولد إنما يتخذه الفانون للامتداد، ويتخذه الضعاف للنصرة. والله باق لا يخشى فناء، قادر لا يحتاج معيناً. والكائنات كلها توجد بكلمة كن. وإذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون.. فما يريد تحقيقه يحققه بتوجه الإرادة لا بالولد والمعين.. وينتهي ما يقوله عيسى عليه السلام ويقوله حاله بإعلان ربوبية الله له وللناس، ودعوته إلى عبادة الله الواحد بلا شريك: {وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}.. فلا يبقى بعد شهادة عيسى وشهادة قصته مجال للأوهام والأساطير.. وهذا هو المقصود بذلك التعقيب في لغة التقرير وإيقاع التقرير.وبعد هذا التقرير يعرض اختلاف الفرق والأحزاب في أمر عيسى فيبدو هذا الاختلاف مستنكراً نابياً في ظل هذه الحقيقة الناصعة:{فاختلف الأحزاب من بينهم}..ولقد جمع الإمبراطور الروماني قسطنطين مجمعاً من الأساقفة وهو أحد المجامع الثلاثة الشهيرة بلغ عدد أعضائه ألفين ومائة وسبعين أسقفاً فاختلفوا في عيسى اختلافاً شديداً، وقالت كل فرقة فيه قولاً.. قال بعضهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء. وقال بعضهم: هو ابن الله، وقال بعضهم: هو أحد الأقانيم الثلاثة: الأب والابن والروح القدس. وقال بعضهم: هو ثالث ثلاثة: الله إله وهو إله وأمه إله. وقال بعضهم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته. وقالت فرق أخرى أقوالاً أخرى. ولم يجتمع على مقالة واحدة اكثر من ثلاث مائة وثمانية اتفقوا على قول. فمال إليه الإمبراطور ونصر أصحابه وطرد الآخرين وشرد المعارضين وبخاصة الموحدين.ولما كانت العقائد المنحرفة قد قررتها مجامع شهدتها جموع الأساقفة فإن السياق هنا ينذر الكافرين الذين ينحرفون عن الإيمان بوحدانية الله، ينذرهم بمشهد يوم عظيم تشهده جموع أكبر، وترى ما يحل بالكافرين المنحرفين:{فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون}.ويل لهم من ذلك المشهد في يوم عظيم. بهذا التنكير للتفخيم والتهويل. المشهد الذي يشهده الثقلان: الإنس والجن، وتشهده الملائكة، في حضرة الجبار الذي أشرك به الكفار.ثم يأخذ السياق في التهكم بهم وبإعراضهم عن دلائل الهدى في الدنيا. وهم في ذلك المشهد أسمع الناس وأبصر الناس:{أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين}..فما أعجب حالهم!.. لا يسمعون ولا يبصرون حين يكون السمع والبصر وسيلة للهدى والنجاة. وهم أسمع شيء وأبصر شيء يوم يكون السمع والبصر وسيلة للخزي ولإسماعهم ما يكرهون وتبصيرهم ما يتقون في مشهد يوم عظيم!{وأنذرهم يوم الحسرة}.. يوم تشتد الحسرات حتى لكأن اليوم ممحض للحسرة لا شيء فيه سواها، فهي الغالبة على جوه، البارزة فيه. أنذرهم هذا اليوم الذي لا تنفع فيه الحسرات: {إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} وكأنما ذلك اليوم موصول بعدم إيمانهم، موصول بالغفلة التي هم فيها سادرون.أنذرهم ذلك اليوم الذي لا شك فيه؛ فكل ما على الأرض ومن على الأرض عائد إلى الله، عودة الميراث كله إلى الوارث الوحيد!:{إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون}..
|